خلقه صلى الله عليه وسلم في طفولته وشبابه
الأخبار عن حاله صلى الله عليه وسلم في طفولته قليلة غير مستفيضة لعدم العناية بتدوين السيرة وقتئذ، ونذكر هنا أنه كان صلى الله عليه وسلم في صغره يلعب ذات مرة مع غلمان قريش فكانوا يحملون الحجارة في أُزُرهم فتبدو عوراتهم، فخالفهم صلى الله عليه وسلم وصار يحملها على رقبته لئلا ترى عورته.
وعن عليّ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما هممت بقبيح مما همَّ به أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بالنبوة إلا مرتين من الدهر كلتاهما عصمني الله عز وجل من فعلهما: قلت لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فلما جئت أدنى دار من مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانة، فلهوت بذلك الصوت حتى غلبني النوم فنمت، فما أيقظني إلا مسُّ الشمس فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك».
إن الله إذا أراد أن يحفظ شخصا، سد عليه أبواب الملاهي والفساد وأوجد العقبات في طريقها وصده عن سبيلها بكيفية لا تخطر على بال، لذلك سلط جل شأنه عليه صلى الله عليه وسلم النعاس حتى لا يشاهد شيئا مما كان يجري في أفراح الجاهلية من لهو وفرح وخمر وما شاكل ذلك، ليبقى نقيا طاهرا من كل شائنة بل من كل ريبة.
وعن أم أيمن قالت: كانوا في الجاهلية يجعلون لهم عيدا عند بوانة، وهو صنم من أصنام مكة تعبده قريش وتعظمه وتنسك أي تذبح له وتحلف عنده، وتعكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة، فكان أبو طالب يحضر مع قومه ويكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد معه فيأبى ذلك. قالت: حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن عليه أشد الغضب وجعلن يقلن: إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا وما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا فلم يزالوا به حتى ذهب معهم، ثم رجع فزعا مرعوبا، فقلن: ما دهاك؟ فقال: إني أخشى أن يكون بي لمم (أي لمة وهي المس من الشيطان)، فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيت؟ فقال: «إني كلما دنوت من صنم تمثَّل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: «وراءك يا محمد لا تمسه»، قالت: فما عاد إلى عيدهم حتى تنبأ صلى الله عليه وسلم
ولم يذق صلى الله عليه وسلم شيئا ذبح على الأصنام، وقيل له عليه الصلاة والسلام: هل عبدت وثنا قط؟ قال: «لا»، قالوا: هل شربت خمرا؟ قال: «ما زلت أعرف أن الذي هُم عليه كفر»، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان (أي كيفية الدعوة إليهما)، وعنه صلى الله عليه وسلم «لما نشأتُ بغضت إليّ الأصنام والشعر».
وكان عليه الصلاة والسلام يرعى الغنم في صغره لزيادة الرحمة في قلبه فكان يرعاها لأهل مكة كما تقدم.
وحضر النبيُّ صلى الله عليه وسلم حرب الفجار، قيل: وكان له من العمر 14 سنة وكان يناول عمومته السهام.
وحضر صلى الله عليه وسلم حلف الفضول.
ولما سافر إلى الشام في تجارة لخديجة - رضي الله عنها - ظهرت أمانته ونجح في تجارته وربح ربحا طائلا، قال ميسرة غلام خديجة: يا محمد اتجرنا لخديجة (كذا سفرة) ما رأينا ربحا قط أكثر من هذا الربح. وقد أحبه ميسرة حبا عظيما لما رآه من أمانته وحسن أخلاقه.
ومما يدل على رجاحة وحضور بديهته لحل المشكلات، الطريقة التي ابتكرها لإشراك المتنازعين في وضع الحجر الأسود.
وقد وثقت به خديجة لما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه فاستأجرته ليتاجر بها وضاعفت له الأجر، كانت - رضي الله عنها - امرأة عاقلة شريفة فلما عاد صلى الله عليه وسلم وأخبرها غلامها عن حميد صفاته دعته عليه الصلاة والسلام وقالت له: إني رغبت فيك لقرابتك مني وشرفك في قومك وأمانتك عندهم وحسن خلقك وصدق حديثك ثم عرضت عليه نفسها فلما تزوجها كان مثال الزوج الصالح وكان موضع احترامها وتقديرها، يدل على ذلك قولها له بعد نزول الوحي وهي تهدىء روعه: «والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتَقري الضيف وتعين على نوائب الحق» وقد كانت أول من آمن به، وقال رسول الله في حقها: «أفضل نساء الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم» (امرأة فرعون). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني عليها كثيرا أمام عائشة - رضي الله عنها - حتى أدركتها الغيرة، فالوفاق بينهما في المعيشة الزوجية كان بالغا حده ولا شك أن هذا من حسن الخلق وصفاء السيرة والسريرة. ولما أدركت عائشة - رضي الله عنها - الغيرة من حسن ثنائه صلى الله عليه وسلم على خديجة قالت: هل كانت إلا عجوزا فقد أبدلك الله خيرا منها، فغضب رسول الله حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ثم قال: «لا والله ما أبدلني الله خيرا منها. آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء»، قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيئة أبدا. فكان عليه السلام متحليا في صغره وشبابه بخير الخلال وأجل الصفات بعيدا عن الشبهات.