الأدب مع النبى صلى الله عليه وآله وسلم -
الإمام السيوطى وقضية نجاة والدى النبى نموذجا -
مقتطف من مقدمة الجامع :
ــــــــــــ
( تعتبر هذه القضية من أشهر القضايا التى أثارها الإمام السيوطى وجال فيها جولات ناجحة ، وأثرت على الجماعة العلمية بعد الإمام السيوطى ، كما أنها أحد القضايا التى عبرت بشكل قوى عن مدى تعلق الإمام السيوطى بجناب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والتى نضج فيها منهج السيوطى العلمى ، واكتملت فيها شخصيته العلمية بكل أبعادها الأصولية والحديثية والفقهية ، وقد ألف فى ذلك عدة رسائل هى :
1) مسالك الحنفا فى أبوى المصطفى .
2) التعظيم والمنة فى أن أبوى الرسول فى الجنة .
3) الدرج المنيفة فى الآباء الشريفة .
4) نشر العلمين المنيفين فى إحياء الأبوين الشريفين .
5) المقامة السندسية فى النسبة المصطفوية .
6) السبل الجلية فى الآباء العلية([1]) .
وفى رسالته مسالك الحنفا فى والدى المصطفى ، تظهر تلك الشخصية العلمية المكتملة للإمام السيوطى ، يقول رحمه الله : الحكم فى أبوى النبى صلى الله عليه وسلم أنهما ناجيان وليسا فى النار صرح بذلك جمع من العلماء ولهم فى تقرير ذلك مسالك :
المسلك الأول : أنهما ماتا قبل البعثة ولا تعذيب قبلها لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ، وقد أطبقت أئمتنا الأشاعرة من أهل الكلام والأصول والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا … ثم أخذ فى بيان أدلة هذا المسلك من الكتاب والسنة ، ونصوص العلماء([2]) .
المسلك الثانى : أنهما لم يثبت عنهما شرك بل كانا على الحنيفية دين جدهما إبراهيم عليه السلام كما كان على ذلك طائفة من العرب كزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل وغيرهما . وقرر السيوطى هذا المسلك بعدة مقدمات أولها : أن آباء الأنبياء ما كانوا كفارا ، وأن الأحاديث الصحيحة دلت على أن كل أصل من أصول النبى صلى الله عليه وسلم من آدم إلى أبيه عبد الله خير من أهل قرنه وأفضلهم ، وأن الأحاديث والآثار دلت على أنه لم تخل الأرض من عهد نوح أو آدم إلى بعثة النبى صلى الله عليه وسلم ثم إلى أن تقوم الساعة من ناس على الفطرة يعبدون الله ويوحدونه ، وذلك يدل قطعا على أن آباء النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن فيهم مشرك ، لأنه قد ثبت فى كل منهم أنه من خير قرنه فإن كان الناس الذين هم على الفطرة هم إياهم فهو المراد إثباته ، وإن كانوا غيرهم وهم على الشرك لزم أحد أمرين : إما أن يكون المشرك خيرا من المسلم وهو باطل بالإجماع ، وإما أن يكون غيرهم خيرا منه وهو باطل لمخالفة الأحاديث الصحيحة ، فوجب قطعا أن
لا يكون فيهم مشرك ليكونوا من خير أهل الأرض كل فى قرنه([3]) ، ثم أخذ فى بيان أدلة هذه المقدمات السابق تقريرها .
المسلك الثالث : أن الله أحيا له صلى الله عليه وسلم أبويه حتى آمنا به ، قال السيوطى : وهذا المسلك مال إليه طائفة كثيرة من حفاظ المحدثين وغيرهم ، منهم ابن شاهين ، والحافظ أبو بكر الخطيب البغدادى ، والسهيلى ، والقرطبى ، والمحب الطبرى ، والعلامة ناصر الدين ابن المنير ، وغيرهم ، ثم ذكر ما ورد من الآثار فى ذلك . ونقل عن القرطبى أنه لا تعارض بين حديث الإحياء وحديث النهى عن الاستغفار فإن إحياءهما متأخر عن الاستغفار لهما .
ثم ختم الإمام السيوطى هذه الرسالة القيمة بقوله : ((خاتمة : وجمع من العلماء لم تقو عندهم هذه المسالك فأبقوا حديثى مسلم (حديث أبى وأباك فى النار – وأنه استأذن فى الاستغفار لأمه فلم يؤذن له) ونحوهما على ظاهرهما من غير عدول عنها بدعوى نسخ ولا غيره ، ومع ذلك قالوا : لا يجوز لأحد أن يذكر ذلك ، قال السهيلى فى الروض الأنف بعد إيراده حديث مسلم : وليس لنا نحن أن نقول ذلك فى أبويه صلى الله عليه وسلم ، لقوله : ((لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات)) ،
وقال تعالى {إن الذين يؤذون الله ورسوله} . وسئل القاضى أبو بكر ابن العربى أحد
أئمة المالكية عن رجل قال : إن أبا النبى صلى الله عليه وسلم فى النار ،
فأجاب : من قال ذلك فهو ملعون ، لقوله تعالى :{إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله فى الدنيا والآخرة} ، قال ابن العربى : ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه إنه فى النار([4]) .
وأكد السيوطى فى رسالته الثانية : ((التعظيم والمنة فى أن أبوى الرسول فى الجنة)) على الحديث الوارد فى إحياء أم النبى صلى الله عليه وسلم من قسم الضعيف الذى يتسامح بروايته فى الفضائل خصوصا فى مثل هذا الموطن([5]) ، ثم ذكر ما يدل على حنيفية السيدة آمنة بنت وهب([6]) ، كما سبق الإشارة إليه فى المسلك الثانى .
ومن لطيف ما ذكره الإمام السيوطى فى هذه الرسالة أنه تأمل بالاستقراء فوجد جميع أمهات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مؤمنات فلا بد أن يكون أم النبى صلى الله عليه وسلم كذلك ، كأم إسحاق وإسماعيل ويعقوب وموسى وهارون وعيسى([7]) .
و يقرر أدلة المسألة فى الرسالة الثالثة ((الدرج المنيفة فى الآباء الشريفة)) ومما ذكره فيها بخصوص أجداد النبى صلى الله عليه وسلم أن الشيخين أخرجا حديث أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم ((رأيت عمرو بن لحى الخزاعى يجر قصبه فى النار وكان أول سيب السوائب)) ، وهو أول من غير دين إبراهيم ، قال السيوطى : ((فثبت بهذا التقرير أن أجداده صلى الله عليه وسلم من إبراهيم عليه السلام إلى كعب بن لؤى وولده مرة منصوص على إيمانهم ولم يختلف فى ذلك اثنان ، وبقى بين مرة بن كعب وعبد المطلب أربعة آباء هم : كلاب – وقصى – وعبد مناف – وهاشم ، ولم أظفر فيهم بنقل لا بهذا ولا بهذا)) ([8]) . ثم يختم السيوطى هذه الرسالة بقوله : ((خاتمة فى وجوب احترام أبوى النبى الشريفين ، فذكر فتوى ابن عربى السابقة ، وذكر أثرا أخرجه أبو نعيم فى الحلية ((أن عمر بن عبد العزيز أتى بكاتب يخط بين يديه وكان مسلما وأبوه كافر ، فقال عمر للذى جاء به : لو كنت جئت به من أبناء المهاجرين . فقال الكاتب : فقد كان أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر كلمة فغضب عمر وقال : لا تخط بين يدى بالقلم أبدا)).
ثم ذكر السيوطى رحمه عدة تصرفات لكبار الأئمة كالإمام الشافعى ،
وأبى داود صاحب السنن وتاج الدين السبكى تدل على لزوم الجرى على الأدب مع النبى صلى الله عليه وسلم وأنه إرشاد منهم وتعليم لنا أن نسكت عن التلفظ بمثل ذلك تأدبا ، وإن كان صلى الله عليه وسلم قد ذكره لأنه يحسن منه ما
لا يحسن من غيره([9]) .
ويؤكد الإمام السيوطى فى مقدمة الرسالة الرابعة : ((نشر العلمين المنيفين فى إحياء الأبوين الشريفين)) أنه ألف عدة مؤلفات فى نجاة والدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بين فيها مسالك الناس فى ذلك وما لهم من مقال وحجج واستدلال مع علمه بالأحاديث الواردة بما يخالف ذلك وقول كثير من العلماء بمقتضاها ، وقصده بنصرة تلك الأقوال بالنجاة أمور :
أحدها : كف الناس عن التكلم بذلك القول الصعب ؛ لأن الأئمة قد نصوا على أنه ليس لنا أن نقوله ؛ لأنه يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثانى : شرح صدور المؤمنين بذلك لأن كل من سمع أن من العلماء من قال بنجاة والدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخولهما الجنة وأنه استخرج لذلك دليلا وأخرجه على قاعدة مقررة فإنه بلا شك ينشرح صدره ويفرح قلبه([10]) .
ويختم رسالته السادسة ((السبل الجلية فى الآباء العلية)) بقوله : ((إنى لم أدع أن المسألة إجماعية بل هى مسألة ذات خلاف غير أنى اخترت أقوال القائلين بالنجاة لأنها أنسب بهذا المقام))([11]) .
أقول : فانظر إلى أدب العلماء الذين نقل عنهم السيوطى ووافقهم مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتحريهم رضاه وعدم إذايته ، وقارن ذلك بصنيع المتهورين من متمسلفى اليوم من الجزم بعدم نجاتهما والتصريح بذلك فى المؤلفات والرسائل وعلى ظهور المنابر ، ويتدينون الله بإعلان ذلك والجهر به ؟! .
وهذا الأدب هو ما أكدته الأحاديث والآثار المروية فى الباب على ما سيأتى تخريجها فى الجامع ، كحديث ((أيها الناس أى أهل الأرض تعلمون أكرم على الله قالوا أنت قال فإن العباس منى وأنا منه لا تسبوا موتانا فتؤذوا أحياءنا)) ، ((العباس منى وأنا منه لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا به الأحياء)) ، ((لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء)) ، ((ما بال أحدكم يؤذى أخاه فى الأمر وإن كان حقا)) ، ((يأتيكم عكرمة بن أبى جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذى الحى
ولا يبلغ الميت)) ، أفيأمر النبى صلى الله عليه وسلم بحفظ الأدب مع عكرمة بن
أبى جهل ، مع القطع بما كان أبو جهل عليه من شدة الكفر والعداوة لله ولرسوله ، وأنه مات على الكفر قطعا ، ثم يتجاوز من يتجاوز الأدب مع رسول الله بخصوص أبويه وليس فيهما دليل قاطع على عدم إيمانهما ، وأقل ما يقال فيهما : ماتا قبل البعثة .
وهناك الكثير من أحاديث الباب التى تصل إلى حد التواتر المعنوى فى منع سب الأموات لما فيه من إيذاء الأحياء ، وقد قال تعالى {والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} [التوبة : 61] .
وحفظ الأدب مع النبى صلى الله عليه وسلم وآل بيته هو الذى كان عليه الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون رضى الله عنهم ، فثبت ((أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبينا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبينا فاسقنا فيسقون)) ([12]) .
وعن سهل بن سعد قال : ((كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا جلس جلس أبو بكر عن يمينه ، فأبصر أبو بكر العباس بن عبد المطلب يوما مقبلا فتنحى له عن مكانه ولم يره النبى صلى الله عليه وسلم فقال النبى صلى الله عليه وسلم : ما نحاك يا أبا بكر فقال : هذا عمك يا رسول الله فسر بذلك النبى صلى الله عليه وسلم حتى رُئىَ ذلك فى وجهه)) ، أخرجه ابن عساكر . قال السيوطى : ولم أر فى سنده من تكلم فيه([13]) .
وروى ابن عساكر أيضا ((أن العباس بن عبد المطلب لم يمر قط بعمر بن الخطاب ولا بعثمان بن عفان وهما راكبان إلا نـزلا حتى يجوز العباس بهما
إجلالا له))([14]) .
وروى ابن عساكر أيضا عن عمار بن أبى عمار : ((أن زيد بن ثابت ركب يوما فأخذ ابن عباس بركابه ، فقال له : تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا فقال زيد : أرنى يدك ، فأخرج يده ، فقبلها فقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا))([15]) .
وروى ابن عساكر أيضا عن القاسم بن محمد قال : كان مما أحدث عثمان فرُضى به منه أنه ضرب رجلا فى منازعة استخف فيها بالعباس بن عبد المطلب فقيل له فقال : أَيُفَخِّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمَّه وأرخص فى الاستخفاف به ، لقد خالف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ رضى فعلَ ذلك ، فرُضى به منه([16]) .
فهذا عثمان بن عفان رضى الله عنه لم يرض أن يُسْتَخَفَّ بسيدنا العباس
رضى الله عنه ، وعاقب المستخف به ، وأن ذلك مما اجتهد فيه عثمان بن عفان فارتضى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ذلك ، والسؤال : هل يرضى الله ورسوله وصحابته ما يفعله كثير من الخطباء من الوقوع فى أبوى النبى صلى الله عليه وسلم ، أما لو كانا غير مسلمين لما حل لنا أيضا الوقوع فيهما لما فيه من أذى النبى صلى الله عليه وسلم ، فاللهم ارزقنا الأدب .
([1]) طبعت جميعا - عدا الخامسة - تحت عنوان : ((رسائل الإمام الحافظ جلال الدين السيوطى فى تحقيق نجاة أبوى المصطفى صلى الله عليه وسلم وأنهم من أهل الجنة فى الآخرة)) ، تحقيق العلامة الشيخ حسنين مخلوف ، رحمه الله ، أما الرسالة الخامسة فمن الواضح أنها مقامة أديبة فى المسألة ، فاقتصر على الرسائل الأخرى ، فقال العلامة المحقق رحمه الله : ((اكتفينا بطبع الرسائل الخمس عن طبع المقامة السندسية ، وذيلناها برسالة إنباه الأذكياء فى حياة الأنبياء عليهم السلام)) ، القاهرة : مط المدنى ، ط 2 ، 1396هـ/1976 م .
([2]) مسالك الحنفا ، ضمن الحاوى ، 2/202 - 209 .
([3]) المصدر السابق ، (2/210) .
([4]) المصدر السابق ، (2/131) .
([5]) التعظيم والمنة ، ضمن مجموعة الرسائل فى تحقيق نجاة أبوى المصطفى صلى الله عليه وسلم ، مصدر سابق ، (ص 78) .
([6]) المصدر السابق ، (ص 95 – 97) .
([7]) المصدر السابق ، (ص 99- 100) .
([8]) الدرج المنيفة ، ضمن مجموعة الرسائل السابقة ، (ص 144 – 145) ، باختصار وتصرف .
([9]) الدرج المنيفة ، ضمن مجموعة الرسائل السابقة ، (ص 150- 152) ، باختصار وتصرف .
([10]) نشر العلمين المنيفين ، ضمن مجموعة الرسائل السابقة ، ص 156 – 157 ، باختصار .
([11]) السبل الجلية ، ، ضمن مجموعة الرسائل السابقة ، ص 190 .
([12]) أخرجه البخارى (1/342 ، رقم 964) ، وابن خزيمة (2/337 ، رقم 1421) ، وابن حبان
(7/110 ، رقم 2861) . وسيأتى فى مسند عمر .
([13]) أخرجه ابن عساكر (8/266) . وسيأتى فى مسند سهل بن سعد من قسم الأفعال .
([14]) أخرجه ابن عساكر (26/354) .
([15]) أخرجه ابن عساكر (19/326) . وسيأتى فى مسند زيد بن ثابت .
([16]) أخرجه ابن عساكر (26/372) . وسيأتى هذا الأثر فى مسند سيدنا عثمان من قسم الأفعال .
ــــــــــــــ
عن موقع الزفتاوي
ــــــــــ
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد
كريم الآباء والأمهات
وعلى آله السادات