سيــد الاستغفــار
شرح هذا الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية كما هو موجود في جامع المسائل المجموعة الأولى ص 159
يقول الشيخ رحمه الله تعالى :
في قوله عليه الصلاة و السلام :
" سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت" . قد اشتمل هذا الحديث من المعارف الجليلة ما استحق لأجلها أن يكون سيّد
الاستغفار ، فإنه صدره باعتراف العبد بربوبية الله ، ثم ثناها بتوحيد
الإلهية بقوله : (( لا إله إلا أنت )).
" خلقتني " ثم ذكر اعترافه بأن الله هو الذي
خلقه وأوجده ولم يكن شيئا ، فهو حقيق بأن يتولى تمام الإحسان إليه بمغفرة
ذنوبه ، كما ابتدأ الإحسان إليه بخلقه .
ثم قال :
" وأنا عبدك " اعترف له بالعبودية.
فإن الله تعالى خلق ابن آدم لنفسه ولعبادته ، كما جاء في بعض الآثار : ((
يقول الله تعالى : ابن آدم ! خلقتك لنفسي ، وخلقت كل شيء لأجلك ، فبحقي
عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له )). وفي أثر آخر : (( ابن آدم !
خلقتك لعبادتي فلا تلعب ، وتكفلت لك برزقك فلا تتعب. ابن آدم ! اطلبني
تجدني ، فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من
كل شيء )). فالعبد إذا خرج عما خلقه الله له من طاعته ومعرفته ومحبته
والإنابة إليه والتوكل عليه ، فقد أبق من سيده ، فإذا تاب إليه ورجع إليه
فقد راجع ما يحبه الله منه ، فيفرح الله بهذه المراجعة. ولهذا قال صلى الله
عليه وسلم يخبر عن الله : (( لله أشد فرحا بتوبة عبده من واجد راحلته
عليها طعامه وشرابه بعد يأسه منها في الأرض المهلكة ، وهو سبحانه هو الذي
وفقه لها ، وهو الذي ردها إليه )). وهذا غاية ما يكون من الفضل والإحسان ،
وحقيق بمن هذا شأنه أن لا يكون شيء أحب إلى العبد منه.
ثم قال : " وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت" فالله
سبحانه وتعالى عهد إلى عباده عهدا أمرهم فيه ونهاهم ، ووعدهم على وفائهم
بعهده أن يثيبهم بأعلى المثوبات ، فالعبد يسير بين قيامه بعهد الله إليه
وتصديقه بوعده. أي أنا مقيم على عهدك مصدق بوعدك. وهذا المعنى قد ذكره
النبي صلى الله عليه وسلم ، كقوله : (( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر
له ما تقدم من ذنبه )). والفعل إيمانا هو العهد الذي عهده إلى عباده ،
والاحتساب هو رجاؤه ثواب الله له على ذلك ، وهذا لا يليق إلا مع التصديق
بوعده. وقوله (( إيمانا واحتسابا )) منصوب على المفعول له ، إنما يحمله على
ذلك إيمانه بأن الله شرع ذلك وأوجبه ورضيه وأمر به ، واحتسابه ثوابه عند
الله ، أي يفعله خالصا يرجو ثوابه.
وقوله : " ما استطعت " أي إنما أقوم بذلك بحسب استطاعتي ، لا بحسب ما ينبغي
لك وتستحقه علي. وفيه دليل على إثبات قوة العبد واستطاعته ، وأنه غير
مجبور على ذلك ، بل له استطاعة هي مناط الأمر والنهي والثواب والعقاب. ففيه
رد على القدرية المجبرة الذين يقولون : إن العبد لا قدرة له ولا استطاعة ،
ولا فعل له البتة ، وإنما يعاقبه الله على فعله هو ، لا على فعل العبد.
وفيه رد على طوائف المجوسية وغيرهم.
ثم قال : " أعوذ بك من شر ما صنعت " فاستعاذته بالله الالتجاء إليه والتحصن به والهروب إليه من المستعاذ منه ،
كما يتحصن الهارب من العدو بالحصن الذي ينجيه منه. وفيه إثبات فعل العبد
وكسبه ، وأن الشر مضاف إلى فعله هو ، لا إلى ربه ،
فقال : (( أعوذ بك من شر ما صنعت )). فالشر
إنما هو من العبد ، وأما الرب فله الأسماء الحسنى ، وكل أوصافه صفات كمال ،
وكل أفعاله حكمة ومصلحة. ويؤيد هذا قوله عليه السلام : (( والشر ليس إليك
)) في الحديث الذي رواه مسلم في دعاء الاستفتاح.
ثم قال : " أبوء لك بنعمتك علي " أي أعترف
بأمر كذا ، أي أقر به ، أي فأنا معترف لك بإنعامك علي ، وإني أنا المذنب ،
فمنك الإحسان ومني الإساءة. فأنا أحمدك على نعمتك ، وأنت أهل لأن تحمد
وأستغفرك لذنوبي. ولذا قال بعض العارفين : ينبغي للعبد أن تكون أنفاسه كلها
نفسين : نفسا يحمد فيه ربه ، ونفسا يستغفره من ذنبه. ومن هذا حكاية الحسن
مع الشاب الذي كان يجلس في المسجد وحده ولا يجلس إليه ، فمر به يوما فقال :
ما بالك لا تجالسنا ؟ فقال : إني أصبح بين نعمة من الله تستوجب علي حمدا ،
وبين ذنب مني يستوجب استغفارا ، فأنا مشغول بحمده واستغفاره عن مجالستك.
فقال : أنت أفقه عندي من الحسن. ومتى شهد العبد هذين الأمرين استقامت له
العبودية ، وترقى في درجات المعرفة والإيمان ، وتصاغرت إليه نفسه ، وتواضع
لربه ، وهذا هو كمال العبودية ، وبه يبرأ من العجب والكبر وزينة العمل.
والله الموفق الهادي ، والحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى
آله وصحبه وسلم ، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين ، وحسبنا الله ونعم
الوكيل.
جزء نقلته من الكتاب والباقي نقلته من صيد الفوائد ,,
* الأثر الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله , ](( ابن آدم ! خلقتك لعبادتي
فلا تلعب ، وتكفلت لك برزقك فلا تتعب. ابن آدم ! اطلبني تجدني ، فإن وجدتني
وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء )) هو من
الإسرائليات كما صرح بذلك هو نفسه رحمه الله في مجموع الفتاوى
فقال: وفي حديث إسرائيلي: يا ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، ...)الأثر